مساكم/صبحكم الله بما يسركم، وكف عنكم مايضركم 💛
في بداية عام 2020 حصلت على فرصة وظيفية في الكلية التقنية للفصل الدراسي المنصرم، كانت الفرصة أن أكون “مُدربة” في قسم التقنية الإدارية، وأعتقد أن مايقابل وظيفة مدربة، هي وظيفة “معيدة” في الجامعة. كنت وقتها أعمل عن بُعد في القطاع الخاص، مع شركة ناشئة منذ عام 2017.. ورأيت أن الاستقالة من وظيفتي الحالية لا تُجدي لأن وظيفتي الجديدة مؤقتة تنتهي بإنتهاء الفصل الدراسي، وعليه أخذت إجازة من الشركة لمدة اسبوعين فقط من بداية التدريس، لتنظيم أموري، والعودة لاحقا.
طلبت الإجازة من العزيزة نوف، وقالت بعدما رأت صورة لمكتب الأستاذة: “أجمل مكتب أستاذة، أفكر بطالباتك ياسعدهم والله” ولذلك أعتقد بأني حظيت بواحدة من أفضل إدارات القطاع الخاص. وللسبب نفسه، كنتُ أسهر أحيانًا فقط لأن نوف طلبت مني إنجاز مهمة ما، أنا التي أعيش على مذهب “مضناك يصلي العشاء وينام” يبدو السهر بالنسبة لي، نوعا من الانجاز أو التضحية، أو كلاهما معا.
كانت الأمور تحت السيطرة بشكل كامل، في الصباح الأستاذة جنان، وفي المساء الموظفة المكروفة جنان، وحتى لحظة تعليق الدراسة، لتُصبح هي الأخرى عن بُعد! عملين عن بُعد.. الجديرُ بالذكر أن الشركة التي أعمل بها، كان “كورونا” مصدر رزق لها، فتراكم العمل فوق بعضه فجأة، في عدد قياسي من الساعات، حتى أنني وقفت أتأمل هذا الكم الهائل من المهام التي أصبحت وكأنها سقطت من السماء. أتأمل وتخنقني العبرة: كيف يمكن إنجاز كل هذا؟
والأكيد أني استعنت بموظفات جُدد لتجاوز الأزمة بأقل قدر من التأخير.
وفي العمل عن بعد، يعتقد -ببالغ الأسى- أغلب أرباب العمل، أن جُل وقت موظفيه متاح له. وفي حالتي، فحتى المتدربات يعتقدن بأن علي أن أكون متوفرة 24 ساعة، أن أرد على كل سؤال، عوضا عن بحثها هي عن الإجابة! ولأن “الرزق يبي تحريث أقدام” رتبتُ أمري مع كلا العملين، وكانت ضريبته التقصير الذي حصل في حياتي الشخصية والإجتماعية، تقصير مؤقت بطبيعة الحال، لكنه اضطرني لتقديم اعتذار لكل واحدة عبت عليها يوما أن طموحها كان “تتزوج واحد غني وتصير ربة منزل” بل أقول: “صح عليك، واطبخي وصوري بالسناب بعد”، ويمكن اعتباره اعتذار من الاعتذرات التي يمحوها النهار، لأني شخص لا يُحب البقاء بدون عمل، ربما خوفا من أن تأكل الهواجس رأسي، لكن بشكل عام: مهم أن تعرف ماذا تريد، بغض النظر عن رأينا فيما تريد، وطالما أن الأمر مباح فـ “كلن ينام على الجنب اللي يريحه“
“وَوالٍ كفاها كُل شيء يَهمُها.. فليست لشيء آخِرَ الليلِ تسهرُ”
المرة الأخيرة التي تعرضت فيها لمثل هذا الضغط كانت سنتي الاخيرة في الجامعة، فكانت هذه التجربة استعادة للياقتي، وأنا الآن أعتقد بأني اصبحت قادرة من جديد على تحديد ومعرفة مدى احتمالي للضغط، فرأيت مني مارأيت، تعلمت من هذه الفوضى ماتعلمت، وهذا جيد لتحديد وجهة الفترة القادمة بإذن الله.
ومع زيادة ضغط العمل في الشركة، وقرب الاختبارات النهائية في الكلية، كان علي أن اختار أفضل وسيلة تقييم لي وللمتدربات، وأعرفُ عن نفسي كراهية المماطلة، والتأجيل للحظة الأخيرة، وحب الاستعداد لمواجهة اي مفاجأة. فاخترت أن تكون الاختبارات النهائية على نماذج قوقل و “open book” ومدته يوم كامل، والتصحيح تلقائي من النماذج نفسها، وجهزت اسئلة الاختبارات قبل مواعيدها بأكثر من أسبوع. كنتُ أحسب وقتها أن الله وفقني لهذا الاختيار لأستطيع التوفيق بين أعمالي، ولكنه سبحانه صاحب اللطف الخفي. كان عندي مادتين، ومواعيد الاختبارات كالتالي: 30 شعبان و 2 رمضان، وقد استقبلت خبر وفاة خالي عبدالله ظهيرة يوم 29 شعبان، ووفاة جدتي أمي نورة كانت صباح يوم 2 رمضان، عليهم رحمة الله. لو أني ما اخترت هذه الوسيلة، لا أعرف ما كان سيحدث!
متدربة عندي تتابع حسابي في تويتر، أخبرت زميلاتها عن وفاة خالي، وعرضوا علي تأجيل الاختبار، لكن رفضت التأجيل، لأن الاختبار جاهز بالفعل، وليس علي سوى متابعة تأديتهم للاختبار، ولأن متدرباتي تأملوا بأن ننتهي من الاختبارات في بداية شهر رمضان، ومأساتي ليس لهم ذنب فيها. نعم كنتُ الأستاذة التي اعتمدت اختبار متدرباتها من هنا، ثم رمت بنفسها من هنا لتغرق في بكاء طويل..
“وَأُخَفِّضُ الزَفرات وَهيَ صَواعِدٌ.. وَأُكَفكِفُ العَبرات وَهيَ جَواري”
في مساء يوم 2 رمضان، كنت أجلس أمام أمي وخالاتي وخالي، اتأملهم بقلب حزين منقبض من جهة، وأعدُ أسماء متدرباتي الحاضرات للاختبار من جهة اخرى. أما نوف فعرضت علي إجازة مفتوحة، لحين أن أسترد نفسي. رغم كل مامررت به، إلا أن نوف ومتدرباتي والزميلات في تويتر والانستقرام، الذين لم تكن تربطهم بي علاقة شخصية، كانوا بلسم لروحي في هذه المرحلة، فجزاهم الله عني خير الجزاء.
يسهل علينا الايمان بشيء، والتجربة تُصدقه أو تُكذبه. مثلا، تقول أحلام مستغانمي: “إن راحة القلب في العمل” وكنتُ أحسب أنها عبارة صحيحة، حتى جاء شهر رمضان.
حاولت بعد انتهاء اختبارات متدرباتي وأيام العزاء، أي بعد يوم 5 رمضان، أن أرمي بكل ثُقلي على عملي، لكني ما استطعت! عندما يقول لي أحد العملاء: “أنتم شركة ***” أعتذر منه بقولي “عزيزنا” ثم أرمي برأسي على لوحة المفاتيح، لأنه لم تعد لي أي سُلطة على دموعي التي صارت تنهمر بدون سابق انذار، دموعي التي حبستها في أيام العزاء، لأنه على أحد منا أن يبتسم ويضحك، لندفع هذه الأيام.. وبعد انتهاء العزاء “بانَ كِذبُ ادِعائي أنَّني جَلِد”
ماذا أقول لأحلام بعد هذه التجربة؟ “لو كان قلبي رمادًا كنتُ أنثُرُهُ.. لكنني كلَّما أخمدتهُ.. اشتعلا”
“إنَّ المصائبَ طوعًا أو كراهيةً.. أعدن نحتي، كما أبدعنَ تلويني”
كانت ستكون تدوينة سعيدة ومكروفة، إلا أن مسارها انحرف، مثلما انحرف مسار 2020 عن ما كنا نأمل، وهذه سنة الحياة، “طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها.. صفوًا من الأقذاء والأكدار” نسأل الله أن يجبر كسرنا، ويرفع ما بنا عاجلا غير آجل.
ختاما: “أنا مدينة للقهوة علمتني كيف ابتلع الحياة”
أراكم على خير ❤️